سيف الدين قطز قاهر الخوف |
سيف الدين قطز قاهر الخوف رسائل الرعب الثلاثة غزا التتار العالم الإسلامي عبر حملة رعب منهجية منظمة شملت ثلاثة أنواع من الرسائل؛ الأولى مكتوبة عبر عدة خطابات كان يبعثون بها إلى كل مدينة قبل غزوها وتدميرها، لعل من أبرزها ما أرسل هولاكو قائد التتار إلى مصر من خطاب تهديد ووعيد إن هي امتنعت عن التسليم، وهذا نصه: «من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائد الأعظم.. يعلم الملك المظفّر قطز أنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلّطنا على من حلّ به غضبه، فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكا، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فمالكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فقد أنصفناكم إذ أسلفناكم، وأيقظناكم إذ حذّرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم». ثم صاحب هذه الرسالة رسالة ثانية من نوع خاص تبث الرعب في قلوب المسلمين عن طريق الحرب النفسية المدمِّرة، حيث كانت وسائل الإعلام في ذلك الوقت متمثلة في الشعراء والأدباء والقصاصين والمؤرخين تنشر الرعب من التتار عبر أخبار مبالغ فيها، فيذيعون مثلا أن التتار تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم، وأنهم إذا أرادوا جهة كتموا أمرهم ونهضوا دفعة واحدة، فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه، ومنها أن التتار نساؤهم يقاتلن كرجالهم، فأصبح رجال المسلمين يخافون نساء التتار!! ومنها أن خيول التتار من قوتها تحفر الأرض بحوافرها، وأنهم لا يحتاجون إلى الإمداد والمؤن؛ لأنهم يتحركون بالأغنام والبقر فلا يحتاجون مددا، وأنهم يأكلون جميع اللحوم حتى لحوم البشر!! أخبار تنتشر بين المسلمين انتشار النار في الهشيم لتهد الرواسي، وتفلق الحجر القاسي، وتفعل في القلوب ما لا تفعله السيوف في الأجساد؛ حتى تحول الناس بسببها إلى تماثيل للجبن وصور للخوف ومقرات للرعب، ولو ذكرت أمامهم كلمة الشجاعة لخافوا لفظها قبل معناها، واستغربوا اسمها فضلا عن مسماها.. همم في القاع!! الصدمة والرعب!! ومع هاتين الرسالتين رسالة ثالثة لكن حروفها هذه المرة من دم وكلماتها من دمار وصفحاتها هي الخراب، كان التتار قد اجتاحوا عاصمة الخلافة بغداد عام 656 من الهجرة، فقتلوا فيها من المسلمين على أقل تقدير ثمانمائة ألف وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، واستمر القتل فيها أربعين يومًا، وقُتل أمام الخليفة المستعصم بالله ولده الأكبر أبو العباس أحمد، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن، وأسر ولده الأصغر مبارك، وسُبيت أخوات الخليفة الثلاثة فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر، وكان الرجل يُستدعى فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى المقبرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وذُبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن الواعظ المعروف أبي الفرج بن الجوزي، وأما الخليفة المستعصم نفسه فقد قُتِل وبأبشع طريقة.. كيف؟! لقد أصدر السفاح هولاكو الأمر بالإجهاز على الخليفة المسكين رفسًا بالأقدام وقد كان!! وتم ذلك يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر. وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأنتنت البلد من جيف الموتى وتغيّر الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدّى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون. يصف ابن الأثير تلك الفترة العصيبة فيقول: «لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًّا منسيًّا، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها». ونزل الإسلام المعركة لكن القمم الإيمانية والهمم الربانية لا تستفزها الأيام بخطوبها، كما أن الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها، لذا كان رد الملك المظفر قطز على هولاكو صارما: سيفًا لا خطبًا.. حربًا لا سلمًا، فقتل رسل هولاكو، وعلَّق رءوسهم على باب زويلة، وأعلن الجهاد في الأمة واستنفر العلماء، بل وقدَّم بنفسه القدوة العملية لجموع الأمة حين قال في شجاعة واستبسال حين رأى الخوف والجزع يملأ العيون والقلوب: «أنا ألقى التتار بنفسي». ثم خاطب الأمراء وهو يستحثهم على البذل من أموالهم والعطاء في سبيل الله فقال باكيا في حرقة: «يا أمراء المسلمين.. من للإسلام إن لم نكن نحن؟!». يا كل من يقرأ الآن.. إن الكلام إذا تكرر في السمع استقر في القلب، لذا أكرِّر: «من للإسلام إن لم نكن نحن؟!». ويا لها من كلمة توقظ معنى المسئولية الفردية والحمل الثقيل في قلب كل فرد من أفراد هذه الامة؛ كلمة إذا تمثلها كل مسلم فلن تسقط للإسلام راية أبدًا بعد اليوم، وتلقف العلماء هذه الكلمة، فتعانقت ألسنة العلماء مع سيوف الأمراء في تآزر إيماني بديع؛ فالأولى تشحذ السيوف من الغماد والثانية تضرب به العدو في عناد، فانبرى العز بن عبد السلام وإخوانه العلماء يزرعون في الناس حب الاستشهاد وطلب الجنة والشوق إلى حور اثنتين وسبعين ينتظرن الشهيد على أحر من الجمر، وصار هم الجميع همًّا واحدًا: همَّ الآخرة، وسمت فيهم نفخة الروح عن قبضة الطين، فإذا أسمى أمانيهم ألا يردهم الله إلى أهلهم وديارهم سالمين!! وأصر القائد المسلم أن يبدأ المعركة بعد صلاة الجمعة تبركًا بدعاء الخطباء على المنابر وتأمين المصلين، وبدأت المعركة واشتد القتال وكانت الكرة على المسلمين، فاخترق التتار صفوفهم حتى وصلوا خيمة القائد، فأصابوا زوجته (جلّنار)، فلما رآها قطز على هذه الحال صاح في لوعة: واحبيبتاه، فقالت له في إيمان: لا تقل واحبيبتاه بل قل واإسلاماه، لتكون أول من ينطق بهذه الكلمة المباركة في هذه الأمة، فما كان منه إلا أن رمى عن رأسه الخوذة وحمل على العدو، وعُقر جواده وهو في قلب العدو، فترجَّل وبقي على الأرض، ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل فجاءه مسرعا متنازلا له عن فرسه، إلا أن قطز رحمه الله أبى وقال: «ما كنت لأحرم المسلمين نفعك!!». وظل يقاتل على رجليه وما تردد وما نكص على عقبيه إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية، فلامه بعض الأمراء قائلين: لو ركبت فرس فلان، فلو رآك بعض الأعداء لقتلك وهلك الإسلام بسببك، فقال في ثبات وإيمان: «أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيِّعه، قد قُتل فلان وفلان وفلان.. حتى عدَّ خلقا من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضيِّع الإسلام». وما هي إلا سنتين اثنتين فقط بعد سقوط بغداد، حتى هزم المسلمون التتار هزيمة ساحقة في هذه المعركة معركة عين جالوت سنة 658 من الهجرة. وأعجب ما في الأمر هو موت قطز نفسه رحمه الله بعد انتصاره في عين جالوت بخمسين يومًا فقط!! بعد أن حكم المسلمين أحد عشر شهرا وسبعة عشر يومًا فحسب!! لم يُكمل السنة يا إخوتاه!! وخلَّف وراءه كل هذا التاريخ المجيد، والانتصار المذهل، والنتائج الهائلة، والآثار العظيمة.. كل هذا في أقل من سنة!! لذا حقَّ للشيخ العز بن عبد السلام أن يبكيه بعد موته فقال وهو ينتحب بشدة: «رحم الله شبابه، لو عاش طويلا لجدَّد للإسلام شبابه». وكان سلطان العلماء العز بن عبد السلام قد شهد له قبلها هذه الشهادة الرائعة: «ما ولي أمر المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز من يعادل قطز رحمه الله صلاحًا وعدلاً» فما بالنا لا نقتفي آثار قطز رحمه الله لنصل إلى ما وصل إليه في عين جالوت في زمان كثر فيه التتار وأحفاد التتار؟ ووالله ما عاد لنا عذر.. فقد أقيمت علينا الحجة بسيرة هذا البطل!! والكتاب الذي أخرج قطزًا وربَّى أمثال قطز ما زال بين أيدينا، وسنّة رسول الله ص محفوظة لنا بأمر ربنا، وسيظل الكتاب والسنة خالدين إلى يوم القيامة يصنعان من يقبل عليهما ويخرجان القمم الشامخة والهمم المتوثِّبة. |