النظر إلى وجه الله

لنظر إلى وجه الله:

خلق الله الخلق في الدنيا على هيئة لا تطيق رؤيته سبحانه، وإذا كانت الجبال الشامخات عجزت عن ذلك فكيف بالإنسان الضعيف؟! قال عز وجل: (فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ ۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُ ۥ دَڪًّ۬ا)[الأعراف: 143].

لذا جاء في الصحيح أن الله جل جلاله «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » 1.

لكن الله يعطي أهل الجنة قوة خارقة ويغيِّر خلقهم بالكلية ليتحمّلوا رؤيته سبحانه، بل ويلتذوا بالنظر إلى وجه الله عز وجل، فإنه أعلى نعيم أهل الجنة وأعظم لذة لهم، وهي الزيادة الواردة في قوله تعالى:(لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٌ۬‌)[يونس: 26 ].

وهذه هي آية المزيد المبشِّرة بيوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، وهو اليوم الأعظم والأجل على الإطلاق، والذي تنتظره قلوب المؤمنين بكل لهفة وشوق، ففيه ترى الرب الكريم كما ترى شمس الظهيرة، والقمر ليلة البدر، ولأن كل شيء في الجنة يختلف عن الدنيا، فزيادة الجنة تختلف اختلافا جذريا عن زيادة الآخرة؛ زيادة الدنيا دوما تكون أقل من الأصل، فإذا أعطاك البائع مثلا زيادة على ما اشتريت شكرت له حسن صنيعه وكرمه لأنه منحك ما لم تدفع فيه شيئا وإن كان شيئا لا يُذكر، لكن زيادة الآخرة أكبر من الأصل ولا مقارنة.

قال رسول الله (ص):

« إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة!! إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يُثقِّل الله موازيننا ويُبيِّض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويُنجِّنا من النار؟ فيُكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقرَّ لأعينهم » 2.

قال الحسن: «إذا تجلى لأهل الجنة نسوا كل نعيم الجنة » 3.

وإذا أردنا أن نعلم قيمة النظر إلى وجه الله ونقارنه بسائر نعيم الجنة، فاسمعوا قول أبي حامد الغزالي:

«ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم، بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم أهل الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به، والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبي الطالب للعب بالعصفور التارك للذة الملك وذلك لقصوره عن إدراك لذة الملك » 4.

 

تفاوت النظر!!

لكن يبادرنا سؤال سُئل عنه عبد الله بن عباس من قبل حين قيل له: كل من دخل الجنة يرى الله عز و جل؟! قال: نعم 5.

وإن كان الأمر كذلك، فأين التفاوت بين العباد إذن؟! وما الفارق بين السابق بالخيرات والمقتصد؟! وبين من يدخل الجنة بغير حساب ومن يدخلها بعد ألف عام من العذاب؟!

والجواب: كلهم ينظرون إليه ولن يُحرم أحد، لكن ما بين لذة نظر أحدهم وأخيه كما بين السماء والأرض! لأن « لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته في الدنيا، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة، فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم » 6.

وتفاوت آخر بين أهل الجنة هو في معدَّل النظر كما يقول ابن سعدي في قوله تعالى (وُجُوهٌ۬ يَوۡمَٮِٕذٍ۬ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّہَا نَاظِرَةٌ۬)

«أي تنظر إلى ربها حسب مراتبهم: منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحده، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وجماله الباهر، الذي ليس كمثله شئ».

وقد جمع الله لأوليائه نوعي النعيم: نعيم التمتع بما في الجنة ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذين النوعين في سورة المطففين فقال في حق الأبرار:(إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * عَلَى ٱلۡأَرَآٮِٕكِ يَنظُرُونَ )[ المطففين: 22-23 ] .

قال ابن القيم:

ولقد هضم معنى الآية من قال: ينظرون إلى أعدائهم يُعذَّبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض، وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون، ثم إنهم لصالوا الجحيم « 7.

والثمن المدفوع:غض البصر عن المحرمات، ومنع النفس من تناول الشهوات، والخلوة بخدمة الله في الليالي المظلمات.


([1])صحيح : رواه مسلم وابن ماجة عن أبي موسى رقم : 1860. قال النووي : «معنى سُبُحات وجهه: نوره وجلاله وبهاؤه، وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة ، والله تعالى مُنزَّه عن الجسم والحد ، والمراد هنا المانع من رؤيته ، وسُمِّي ذلك المانع نورا أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما ، والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه جميع المخلوقات لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات ، ولفظة (من) لبيان الجنس لا للتبعيض ، والتقدير لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المُسمَّى نورا أو نارا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته والله أعلم». شرح النووي على مسلم 3/14بتصرف ، وفي حقيقة الحجاب ومعناه قال المناوي : «قال في الحكم : الحق ليس بمحجوب إنما المحجوب أنت عن النظر إليه ، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه ، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر ، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر ﴿uqèdurãÏd$s)ø9$#s-öqsù¾Ínϊ$t6Ïã﴾.

([2])صحيح : رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان عن صهيب كما في صحيح الجامع رقم : 521

([3])شرح حديث لبيك 1/88

([4])إحياء علوم الدين4/227

([5])حادي الأرواح1/232

([6])إغاثة اللهفان 1/33بتصرف

([7])إغاثة اللهفان 1/32

 

 

اضف تعليقك

 
#2 لا اله الا الله السبت, 23 فبراير 2013
سبحانك يا الله :(
اقتباس
 
 
#1 محمود المصرى الأربعاء, 13 يونيو 2012
«حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه »
اقتباس
 
لافتة إعلانية
لافتة إعلانية
لافتة إعلانية

احصائيات الموقع

حاليا يتواجد 145 زوار  على الموقع