الاسم الحادي والثلاثون: الحليم
ما أحلم الله عني حيث أمهَلَني!
أولا: معنى اسم الله الحليم
قال الغزالي:
«الحليم :هو الذى يشاهد معصية العصاة، ويرى مخالفة أمره، ثم لايستفِزُّه الغضب، ولايعتريه الغيظ، ولايحمله على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش كما قال تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) فاطر:40»().
فهو (الحليم) ذو الصفحٍ والأناة، فلا يستفزه جهل الجاهلين ولا عصيان المسرفين.
والحلمُ قرين الحكمة، فلا يكون الحليمُ إلا حكيمًا يضع الأمور في مواضعها.
وهو قرين العلم، فلا يكون حلم (الحليم) عن جهلٍ بأحوال عباده حاشاه (والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما( (الأحزاب:51)
وهو قرين القدرة كذلك، لأن الحليم إذا لم يكن قادرًا كان حلمه مُتلبِّسًا بالعجز والضعف، فالعاجز عن المعاقبة لا يُسمَّى حليما، بل هو مقهورٌ لا يملك دفع الأذى عن نفسه فضلا عن غيره، ولذا صدق المتنبي حين قال:
كل حِلْمٍ أتى بِغيرِ اقتدار .. حُجَّةٌ لاجِىءٌ إليها اللئامُ
وقد أطلق الجاحظ على الحلم مع القدرة لقب (أشرف الحِلْم)، فقال:
«والحِلْم حلمان: فأشرفهما حِلْمك عمَّن هو دونك»().
عرف ربه الحليم من حلم عن من قدَر عليه وعفا عنه.
ما عرف ربه الحليم من عاقب المسيء إليه، ولم يعفُ عنه إذ قدَر عليه.
حجة اللئام!
كتب أحمد خالد توفيق في صفحته تحت هذا العنوان في 5 من أغسطس لعام 2015:
«كانت تلك الطبيبة غاية في الثراء، وهذه الأسرة تملك نفوذًا هائلاً، وقد أدرك رؤساؤها أنها لا تهاب أحدًا ولا شيئًا، لذا كانوا حذرين معها، لهذا تركوها في سلام، وراحوا يمارسون وقاحتهم وسُلطتهم على من هم أصغر شأنا أو أفقر أو أقل نفرًا..
كانت الحاجة زينب مريضة في القسم في الستين من العمر، ثياب ممزقة رثة، ومرض عضال اسمه تصلب الجلد أدى لتساقط أناملها كمن أصيب بالجذام، كما أن كبدها لم يكن على ما يرام...
ذات يوم كانت الطبيبة مشغولة جدًا، فلم تقم بالمرور على هذه الحالة، ويبدو أن العجوز طلبت منها أشياء فلم تفعلها، فراحت تلومها بكل ضيق خُلُق الشيخوخة المعهود.. لقد تعالى صوتها حتى سمعه الجميع، وشتمت الطبيبة وأهانتها مرارًا.
فوجئتُ بالطبيبة الثرية التي لا تطيق ربع كلمة من مدير المستشفى والتي يرتجف الرؤساء لدى رؤيتها، فوجئت بها تطرق برأسها في خجل وندم وتكرر: أنا آسفة يا أمي.. سامحيني!
هزَّني هذا المشهد كثيرًا وظللت أجتره ليلاً نهارًا. كان بوسعها نسف المريضة أو طردها في أي لحظة، لكنها أدارت لها خديها تصفعهما كما تشاء.
كلنا ضعيف، متراخٍ، وديع كالأرنب مع رؤسائه أو القادرين على إيذائه، بينما هو قاسٍ، وقح، صارم مع من هم أضعف منه.
المعجزة الحقيقية وذروة النبل هما أن تصير ضعيفًا وديعًا مع من تقدر على إيذائهم وتدميرهم، بينما تعامل الرؤساء بكبرياء وكرامة!
الدرس الثاني المستفاد من هذه القصة أن الحلم يكون نبيلاً فعلاً عندما تستطيع ألا تكون حليمًا».
الفارق بين الحليم والصبور!
وفارق كبيرٌ بين الحليم والصبور من الخلق، فالحِلمُ يكون مع القدرة ولايُشترط ذلك في الصبر، فقد يكون الصابر عاجزا لا حيلة له، بعكس الحليم.
وفارقٌ آخر أورده صاحب روح البيان، فقال:
«والفرق بين الحليم والصبور أن المذنب لا يأمن العقوبة فى صفة الصبور كما يأمنها فى صفة الحليم، يعنى أن الصبور يشعر بأنه يُعاقَب في الآخرة بخلاف الحليم»().
ولولا حلم الله ومغفرته، لزُلزِلت السماوات والأرض من معاصي العباد. قال ربي:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41].
والسؤال: ما مناسبة ذكر الحلم هنا؟!
والجواب:
لأن السموات والأرض همَّت بعقوبة الكفار بالعقوبةِ التي استوجبوها بجنايتهم، فأمسكهما (الحليم) سبحانه، مع أنه لو أذِن للسماء لقصفتهم، ولو أذن للأرض لابتلعتهم، ولكن وسعهم حلم الله ومغفرته {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}
قال ابن القيم:
«وفي الآية إشعار بأن السماوات والأرض تَهِمُّ وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتي به العباد، فيُمسِكُهما بحلمه ومغفرته»().
ثانيا: من علامات حلم الله!
-
إمهال الكفَّار
في الحديث القدسي من حديث أبي هريرة عن النبي ^:
«قال الله: يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتِمَني، ويُكذِّبَني وما ينبغي له، أما شتْمُه فقوله: إن لي ولدا، وأما تكذيبه فقوله: ليس يُعيدُني كما بَدَأني»().
يقول الإمام ابن القيَّم متعجِّبا من فعل العبد الحقير وحلم الربِّ الكريم:
«وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المُكَذِّب ويعافيه! ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته، ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدِّله بسيئاته حسنات، ويلطف به في جميع أحواله، ويؤهِّله لإرسال رسله، ويأمرهم بأن يلينوا له القول، ويرفقوا به»().
وقد قال تعالى في شأن أعدائه الذين حرَّقوا أولياءه وهم أحياء:
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [البروج: 10]
قال الحسن البصري:
«انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة»().
وقد قيل في مأثور الحكم في شأن سبب الحلم:
«أوكد أسباب الحلم رحمة الجُهَّال».
وهل هناك أجهل من بني آدم؟! ولذا يحلم علينا ربنا (الحليم).
إن وضعت نفسك في نفس الموقف إن آذى أحدهم أقاربك أو عائلتك وأصبحت المسألة ثأر! فلو عاقبتهم فلك كل الحق، ولا لوم عليك في المعاقبة بالمثل! أما الله فما أحلمه سبحانه، ولا أحد أكثر قبولا للمعاذير منه ولذا يدعوهم إلى التوبة.
-
إمهال العصاة!
كم أنعم الله على عباده العصاة، فلم يعاجلهم بالعقوبة رغم استحقاقهم لها، ومهما عظمت ذنوبهم وتكرَّرت، ولكنه يؤخِّرهم ويمهلهم المهلة تلو الأخرى. قال ابن القيِّم:
وهو الحليم فلا يُعاجِل عَبدَه بِعقوبة لِيتوبَ مِن عِصيانِ
وقد أخبر سبحانه عن تأخيره عقاب من أذنب من عباده، فقال تعالى:
﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61].
فلو آخذ الله عصاة بني آدم بمعاصيهم، لما ترك على الأرض مخلوقا يدِبُّ على الأرض، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى بعض هذا فقال:
«إِنَّ الرَّجْفَ مِنْ كثرة الزِّنا، وإِنَّ قحوط المطر مِنْ قضاة السُّوء وأئمَّة الجَوْر»().
والإمهال من أجلِّ نعم الله على الخلق، وهو أن لا يعجِّل (الحليم) لهم عقوبات الذنوب؛ ليفتح باب التوبة، فيصلح العبد ما أفسد وارتكب من إثم، وجعل الله من علامات إمهاله أن مَلَك السيئات يرفع القلم ست ساعات لا يكتب خطيئة العبد، فإن تاب وإلا كتبها سيئة واحدة! قال ^:
«إن صاحب الشِّمال ليَرفَع القلم ستَّ ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن نَدِم واستغفر الله منها ألقاها وإلا كُتِبَتْ واحدة»().
وهذا الحلم لا يشمل العصاة فحسب، بل وحتى أشرف الأنبياء! فقد قال رسول الله ^:
«لَو يُؤاخِذنِي الله وابن مريم بما جنَت هاتان - يَعْني الإِبهامَ والَّتي تليها- لعذَّبَنا، ثُمَّ لم يظلِمنا شيْئًا»().
فماذا نقول نحن أصحاب الخطايا والبلايا في حلم (الحليم) بنا؟!
أنا عبدُك الجاني وأنتَ المالِكُ ... إِنْ لم تُسامحني فإنِّي هالِكُ
يا مَنْ تَدارَكَ طولَ جهلي حِلْمُهُ ... ذُخْري لِحشْري: عفوُك المُتَدَارِكُ
مولايَ أسْرَرْتُ القبيح وظاهِري ... حَسَنٌ وأنتَ بِحَجْبِ سِتري مَالِكُ
حسبي خسارا أن تراني مُسْرِفا ... ويَظُنُّ هذا الخلقُ أني ناسِكُ!
ولهذا كان من جميل دعاء عبد الله بن ثعلبة البصري:
«اللهم أنت من حِلْمِك تُعصَى فكأنك لا تَرى، وأنت من جودك وفضلك تُعطي فكأنك لا تُعصَى، وأيُّ زمان لم تعْصِك فيه سكان أرضك فكنت عليهم بالعفو عوَّادا، وبالفضل جوَّادا»().
عرف ربَّه الحليم من رأى تتابع إمهاله له على عصيانه وهجرانه.
ما عرف ربَّه الحليم جحد نعمة الله عليه في الإمهال رغم العصيان.
-
إمهال الطغاة!
قال ابن الجوزي:
«لقد تأملت أمرًا عظيمًا: أنه عز وجل يمهل حتى كأنه يُهمِل، فترى أيدي العصاة مطلقة، كأنه لا مانع؛ فإذا زاد الانبساط، ولم تَرعَوِ العقول، أخذ أخذ جبار!
وإنما كان ذلك الإمهال ليَبْلوَ صبر الصابر، وليُملِي في الإمهال للظالم، فيثبت هذا على صبره، ويُجزَي هذا بقبيح فعله»().
وقال في موضع آخر:
«قد تبغَتُ العقوبات، وقد يؤخِّرها الحلم، والعاقل من إذا فعل خطيئة، بادرها بالتوبة، فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل!»().
ويتعجَّب الناس من حلم (الحليم) على الطغاة، وهم الذين ساموا أولياءه ألوان العذاب!
والجواب: أن هذا لا يخلو من حكمة، فلو عجَّل الله للظالمين العذاب بِحرقهم في نار الدنيا لكان هذا عذابا مُخَفَّفا! فهي في النهاية جزء من سبعين جزء من نار الآخرة، وقد ضُرِبت بماء البحر سبع مرات، و لولا ذلك ما انتُفِع بها كما في قول ابن عباس.
وهؤلاء بظلمهم للمؤمنين يستحقون عذابا أشد وأبقى!وهذا لا يكون إلا في جهنم (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)
وحكمة أخرى من وراء هذا الحلم:
مرَّ عامر بن بهدلة برجُلٍ قد صَلَبَه الحجاج فقال:
يا ربِّ!! إنَّ حلمك عن الظالمين قد أضرَّ بالمظلومين، فرأى في منامه أن القيامة قد قامت، وكأنه قد دخل الجنة، فرأى المصلوب فيها في أعلى علِّيين، وإذا مُنادٍ ينادي:
«حلمي عن الظالمين أحلَّ المظلومين في أعلى علِّيين!»().
عرف ربه الحليم من أدرك حكمته في إمهال الظالمين رغم عدوانهم وفجورهم.
ما عرف ربه الحليم من لم يدرك حكمة إمهال الظالمين، فأصابه الجزَع واليأس والقعود من علو الظلم وأهله.
-
قبول الأعذار!
لأن (الحليم) أكثر من يقبل الأعذار، ويحب من خلقه مَنْ قَبِل الأعذار، ففي الحديث:
«ليس أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أكثر معاذير من الله »().
فإن الله أعذر إلى عباده ابتداء بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ووجعل لهم من الرغائب والزواجر ما لا حصر لها لئلا يكون للناس على الله حجة في عدم الاستجابة لأمره، ثم إنه أعذر إليهم انتهاء بقبول أعذارهم وتوبتهم بأيسر عمل: ندم وعزم على عدم الرجوع إلى الزلل.
-
بين حلم الله وحِلم البشَر!!
حلم المخلوقين لم يكن في معهم الصغر، ثم اكتسبوه عند الكبر، وقد يتغيَّر هذا الحلم بالمرض أو الغضب أو الظروف القاسية المتغيِّرة، وفي النهاية يفنى حلم العبد بموته وفنائه، ولكن حلم الله لا يزول لأن الله حي لا يموت.
والمخلوق قد يحلم مع إنسان يحبه دون إنسان، وفي موقف دون موقف، ويحلم أحيانا عمن لا يقدر على عقوبته، و(الحليم) سبحانه متعالٍ عن كل هذه النقائص وعلامات العجز.
ثالثا: فادعوه بها عبادة وعملا
-
دعاء المستغيثين!
وذلك بسؤال المؤمن ربه بهذه الاسم العظيم (الحليم) قائلا: يا حليم اعف عني واصفح واستر.
هب لي من حلمك ما تكفيني به، وتُنْجيني من عذابك.
فيا ربُّ ذنبي تعاظَم قدره ... وأنت بما أشكو يا ربُّ عالم
وأنت رؤوفٌ بالعباد مهيمنٌ ... حليمٌ كريمٌ واسعُ العفوِ راحم
عرف ربه الحليم من دعاه أن يحلم به عند تقصيره ويعفو عنه عند تفريطه.
ما عرف ربه الحليم من تجرَّأ عليه دون أن يطلب حلمه عليه وعفوه عنه.
-
حلمك على الجاهلين
يُعامل الله الحليم بالحلم، فكلما ازددت حلمًا ازداد حلم الله بك، وكلنا يحتاج هذا الغوث، لأننا أصحاب ذنوب ومعاصي نخشى معها المعاجلة بالعقوبة، فإذا أحببت أن يحلم الله عليك؛ فلا يعاجلك بالعقوبة، فاحلم أنت على خلقه ولا تعجل عليهم باعقوبة، ومن ذَكَر كثرة عصيانه لربه وتواتر حلم الله عليه سكن غضبه على من خالف أمره.
كان عون بن عبد الله بن عتبة إذا غضب على غلامه قال:
«ما أشبهك بمولاك! أنت تعصيني وأنا أعصي الله! فإذا شتد غضبه قال أنت حر لوجه الله»().
وهي خصلة لا تنكشف إلا عند الغضب أو مع اشتعال نار الخصومة، وقد قيل:
مَن يدَّعي الْحِلْم أغْضِبه لِتَعْرِفَه ... لا يُعْرَفُ الْحِلْم إلَّا ساعةَ الغضَبِ
إن الله حليم يحب الحلم في عباده، ولذا صحَّ أن النبي ^ قال لأشج بن عبد القيس:
(إن فِيكَ لخصْلتيْنِ يُحِبهمَا الله تعالى: الحِلم والأناة»().
وأثبت النبي ^ محبة الله لعبده الحليم فقال:
«إن الله يُحِبُّ الغنيَّ الحليم المتعفِّف، ويبغض البذيء الفاجر السائل المُلِحَّ»().
قال الماوردي:
«فالحلم من أشرف الأخلاق وأحقِّها بذوي الألباب لما فيه من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد»().
روى الخطيب في تاريخ بغداد من حديث أبي هريرة أن النبي ^ قال:
«إنَّما العِلم بِالتَّعَلُّم، وإِنَّما الحِلم بِالتَّحلُّم، ومن يَتَحرَّ الخير يُعطَه، ومن يَتَوَقَّ الشَّر يُوقَه»().
قال الغزالي:
«الحلم أفضل من كظم الغيظ؛ لأنّ كظم الغيظ عبارة عن التَّحلُّم أي تكلُّف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعوَّد ذلك صار ذلك اعتيادا فلا يهيِّجه الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهذا هو الحلم الطبيعي، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوَّة الغضب وخضوعها للعقل، ويكون ابتداؤه التَّحلُّم وكظم الغيظ تكلُّفا، ويعتاد ذلك حتى يصير خلقا مكتسبا»().
قال معاوية لرجلٍ شَهِدَ عنده بشهادةٍ: كذبتَ! فقال الأعرابي: إن الكاذب لَلْمُتَزَمّلُ في ثيابك! فقال معاوية:
«هذا جزاء من يَعْجَل»().
وقال الأوزاعي: «كان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلًا حبسه ثلاثًا، ثم عاقبه؛ كراهيةَ أن يعجل في أول غضبه»().
قال علي :
«حِلمُك على السَّفيه يكثِّر أنصارك عليه»().
والمعنى: أنَّ الإنسان قد يبتلى بسفيهٍ يرمي كلامًا يجرح، أو يتصرَّف تصرُّفًا يؤذي، فإن قابله الإنسان بسفهٍ، فقد نزل إلى مستواه، وإن سكت عنه وأعرض، تولَّى الناس الدفاع عنه والانتصار له.
قال معاوية :
«يا بني أمية!! قارعوا قريشًا بالحِلْم، فوالله إن كنت لألقى الرجل في الجاهلية يوسِعُني شتمًا، وأوسِعُه حلمًا، فأرجع وهو لي صديق أستنجده فيُنِجدُني، وأثيره فيثور معي، وما دفع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرمًا»().
عرف ربه الحليم من حلم على السفهاء ولم يجاريهم في إساءاتهم وعدوانهم.
ما عرف ربه الحليم من سفه مع السفهاء، وخاض مع الأشقياء بالخبيث وسيء الكلام.
-
حب رب العالمين
وكيف لا وقد تواتر حلمه على عباده العصاة، فكيف بالطائعين، ولذا كان الحسن كثيرا ما يردِّد:
«اللهم لك الحمد على حلمك بعد علمك، ولك الحمد على عفوك بعد قدرتك»().
عرف ربه الحليم من أحبه لتتابع حلمه، وعدم معاجلته له بالعقوبة عند المعصية.
ما عرف ربه الحليم من لم يعرف حلمه عليه، ولم يحفظ له عدم معاجلته بعقوبته على الذنب.
رابعا: فادعوه بها مسألة وطلبا
يا حليما ذا أناة..
احلم على المذنبين، وتجاوز عن المسرفين، ولا تعاجل بعقوبتك عبادك الخاطئين.
يا حليما ذا أناة..
حلمك على الظالمين كاد يفتن المستضعفين، فعجِّل بالفرَج يا رب العالمين..
يا حليما ذا أناة ..
ارزقنا الحلم عند المقدرة، وارزقنا العفو عند القوة..
خامسا: حاسِب نفسك تعرِف ربَّك