30 |
الملك ( الجزء الثانى) لمن المُلك اليوم؟ لله
ثانيًا: فادعوه بها عبادة وعملًا الواجب الأول: ادفع ضريبة الأملاك كل مُلكٍ ملَّكك الله إياه ما هو إلا ابتلاء: (ليبلوكم في ما آتاكم).. ولاحظ قوله: (آتاكم) لا (ملَّككم). فماذا ملَّكك الله؟! ابدأ بما اشترك فيه كل الناس: فقيرهم وغنيهم، عزيزهم وذليلهم، سيدهم وخادمهم: سمعك وبصرك، ومواهبك وقدراتك. هذه كله أملاكٌ ملك الله إيّاها، فهل تستطيع أن تحفظ أيًّا منها، فلا تُسلَبَها؟! والجواب: كلا. قال ابن الجوزي: «قرأتُ هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] ، فلاحَت لي منها إشارة كِدْتُ أطيشُ منها: وإن عنى معنى السمع والبصر؛ فذلك يكون بذهولهما عن حقائق ما أدركا شُغْلًا بالهوى، فيُعاقَب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات، فيرى وكأنه ما رأى، ويسمع وكأنه ما سمع، والقلب ذاهل عما يتأذى به؛ فيبقى الإنسان خاطئًا على نفسه، لا يدري ما يُراد به، لا يؤثر عنده أنه يبلى، ولا تنفعه موعظة تجلى، ولا يدري أين هو، ولا ما المراد منه، ولا إلى أين يُحمل؛ وإنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته، ولا يتفكر في خسران آجلته، لا يعتبر برفيقه، ولا يتعظ بصديقه، ولا يتزود لطريقة، وهذه حالة أكثر الناس، فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات، فإنها أقبح الحالات»(1). فانظر دائمًا لكل ما ملَكته بنظرتين: الأولى: أنه لا يمكنك التصرف فيه مطلقًا كيف شئت، بل قد تُسلَبه في أي لحظة. الثانية: أن تصرفك فيه ابتلاء وفتنة، وكلما زاد ملكك زادت فتنتك، وكلما اتسع سلطانك تضاعفت أعباؤك، وكلما طاب نعيمك زادت مسؤولياتك.
قال عبد الله بن مسعود: وقال الراغب الأصفهاني: «فأعراض الدنيا عارية في أيدي الناس مستردة، كما قيل: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يومًا أن ترد الودائع وهي من وجه منيحة: منحت الإنسان لينتفع بها مدة، ويذرها لينتفع بها من بعده. ومن وجه وديعة في يده: رُخِّص له في استعمالها والانتفاع بها بعد أن لا يسرف فيها، لكن الإنسان لجهله ونسيانه لما عهد إليه بقوله: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) اغتر بها، فظنَّ أنها قد جعلت له هبة مؤبدة، فركن إليها واعتمد عليها، ولم يؤدِ أمانة اللَّه تعالى فيها، ثم لما طُولب برَدِّها تمنع منه وضجر، ولم ينزع عنها إلا بنزع روحه أو كسر يده، وبعضهم- وهم الأقلون- حفظوا ما عهد إليهم، فتناولوها تناول العارية والمنيحة والوديعة، فأدوا فيها الأمانة، وعلموا أنها مسترجعة، فلما استُرِدَّت منهم لم يغضبوا ولم يجزعوا، وردوها شاكرين لما نالوه منها، ومشكورين لأداء الأمانة فيها»(3). وهذا ما فهمته امرأة أبي طلحة لما قُبِضَ ولدُها، فصبرت حتى فاض صبرها على زوجها، وانقلب رضًا وسكينة فقالت له: إن الله عزوجل كان أعارك ابنك عارية، ثم قبضه إليه، فاحتسِب واصبِر. لا تخضعن لمخلوق على طمع فإن ذاك مضر منك بالدين واسترزق الله مما فى خزائنه فإنما هى بين الكاف والنون المؤمن الصادق غناه من أن ثقته بما في يد الله أوثق منه بما في يد الناس؛ ولذا قال أبو سليمان الداراني: والإيمان بالملك يعلِّمك أنه لا أحد يملك من أمر ضرك أو نفعك شيئًا إلا الملك، فتقوى على النطق بكلمة الحق، ولا تجبن في مواجهة من لا يملك من أمرك فضلًا عن أمر نفسه شيئًا. هذا عمر بن هبيرة والي يزيد بن عبد الملك على العراق يستفتي الحسن البصري في مسألة، فيقول: إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها، وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم فيه، فأقبض طائفة من عطائهم، فأضعه في بيت المال، ومن نيتي أن أرُدَّه عليهم، فيبلغ أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو، فيكتب إلى أن لا ترُدَّه، فلا أستطيع رَدَّ أمره، ولا إنفاذ كتابه، وإنما أنا رجل مأمورٌ على الطاعة، فهل عليَّ في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور، والنية فيها على ما ذكرت؟! فأجابه الحسن: «حق الله ألزم من حق أمير المؤمنين، والله أحق أن يطاع، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فاعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل، فإن وجدته موافقًا لكتاب الله فخذ به، وإن وجدته مخالفًا لكتاب الله، فانبذه يا ابن هبيرة! اتق الله، فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب العالمين يزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، فتدع سلطانك ودنياك خلف ظهرك، وتقدم على ربك، وتنزل على عملك.. يا ابن هبيرة.. إن الله ليمنعك من يزيد، ولا يمنعك يزيد من الله، وإن أمر الله فوق كل أمر، وإنه لا طاعة في معصية الله، وإني أحذرك بأسه الذي لا يُرَدُّ عن القوم المجرمين»(7). (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)10).. وفي الحديث الرائع الماتع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ^: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك»(11). ألا له الخلق والأمر.. فلأن الله هو الذي خلق، فله الأمر في ما أراد وحكم، وإذا كان الملك المطلق إنما هو لله وحده لا شريك له، فالطاعة المطلقة إنما هي له وحده لا شريك له، فتُقدَّم طاعته على طاعة من سواه، وحكمه على حكم غيره، بل لا طاعة لأحد إلا في حدود طاعته، ولا طاعة لمخلوق في معصية الملك. ولما كان من لوازم الملك لله تعالى الحكم والتشريع كان لزامًا على العباد قبول حكم الله تعالى وشرعه، ورفض ما سواه، والإعراض عن التحاكم لغيره، فالحكم لله وحده. وهذا معناه التزام الحكم القدري والشرعي الجزائي.. الحكم القدري: وهو الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته، فالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والرزق بنوعيه المادي والمعنوي، وغيرها تجري على مقتضى قضائه وقدره، فهذا حق الله فيه أن يتلقاه العبد بالاستسلام وترك المخاصمة والاعتراض. والحكم الشرعي: بالحِلِّ والحُرمة، فقد أرسل الله رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه؛ ليسير الخلق على حكم الله في عقائدهم وأخلاقهم وأقوالهم وأفعالهم وظاهرهم وباطنهم، ونهاهم عن مجاوزة حكمه. والحكم الجزائي: أي هو الذي له الحق أن يقول لك: لو فعلت كذا تؤجر بكذا، ولو فعلت كذا عوقِبتَ بكذا، فمن تمام مُلكِه أن له الأحكام الجزائية من إثابة الطائعين، وعقوبة العاصين، وكل هذه الأحكام تابعة لعدله وحكمته، وكلها من معاني ملكه.
حين يتحقق العبد أن نفسه وأهله وماله وولده مِلكٌ لله على الحقيقة، وأن الله جعلهم عنده عارِيَّة، فإذا أخذها منه فهو كالمعير يسترد عاريَّته من المستعير، وإنما هو متصرف في ما يملك تصرف العبد المملوك لا تصرُّف المالك، ولهذا لا يجزع لفقد ما حازه ولا يتسخَّط، وينجح في اختبار السلب كما نجح في اختبار العطاء. وفي الحديث: «ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾..اللهم أجُرْني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف الله له خيرًا منها»(12).
كل ما أردت وتمنَّيت حقر أو عظم، من شفاء وصحة، أو أولاد وزوجة، أو مال وسعة رزق، أو نجاح في حياة عملية أو زوجية، أو صلاح في دين مع ثبات ويقين.. كل هذا من يملك خزائنه إلا الله؟! فكيف تترك من يملك كل شي لتقف على باب من لا يملك أي شيء! هذا حديث عائشة رضي الله عنها موقوفًا: «سلوا الله كل شيء حتى الشِّسْع، فإن الله عز وجل إن لم يُيَسِّرْهُ لم يَتَيَسَّر»(13). وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه حتى ملح عجينه وعلف شاته. وفي الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قال: «يا رب، إنه لَتَعرِض لي الحاجة من الدنيا، فأستحي أن أسألك، قال: سَلْني حتى مِلحَ عجينك وعَلَف حمارك»(14). اعلم أنه وحده سبحانه وتعالى الذي يسبب الأسباب، فمرادك يتحقق بالأسباب الأرضية، لكن من يملك هذه الأسباب إلا الملِك؟! والأسباب مطلوبة منك بل مفروضة عليك على أن لا تقف حاجزًا بينك وبين الله، وقد تملك أسبابًا لكن يُعطِّلها الله كما حدث مع نار إبراهيم عليه السلام لأن الله أمرها بذلك. وراجع شريط ذكرياتك:
وهذا يدلُّ على أن وجود الأسباب تحت يديك لا يضمن لك بلوغ مرادك كما كنت ترجو، إلا أن يطرح المَلِك فيها البركة، فتنتفع بها، فالذي ملَّكك السبب هو وحده القادر على أن ينفعك به أو يسلب فائدته عنك؛ لذا فإياك أن يتعلق قلبك بالسبب بل تعلَّق بالمسبِّب. ولذا في صحيح مسلم جاء في الرقية: «بِاسْم الله أرْقيك، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذيك، مِنْ شرِّ كُلِّ نَفْسٍ أو عينِ حاسِدٍ، الله يَشْفيك، باسم الله أرقيك»(15). فواضح هنا تمام الوضوح أن النبي ^ يرقي، لكن الله هو الذي يشفي. ونحوها من الأسماء التي تدل على التكبر والعلو في الأرض. قال ^ : (إن أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله، رجلٌ تسمى ملك الأملاك)(16). قال ابن حجر: «واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد، ويلتحق به ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء»(17). ( قال ابن القيم: «ولما كان الملك الحق لله وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضعه عند الله، وأغضبه له اسم (شاهان شاه) أي: ملك الملوك، وسلطان السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير الله، فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يحب الباطل. وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا (قاضي القضاة) وقال: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين، الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون»(18). (1
(اللهُم أنت الملِكُ لاَ إلهَ إلاّ أنت، أنت رَبِّي وأنا عبدك، ظَلمْت نفسي وَاعْترَفت بِذَنبِي، فاغفِر لي ذُنُوبِي جَميعًا، إنهُ لاَ يَغفِرُ الذنُوبَ إلَّا أنت)(19) يا ملك الملوك.. ارزقني مُلكَ الدنيا لأسخِّره في طاعتك، ومُلكَ الآخرة لأنعم بجنتك. يا ملك الملوك.. أوقفني ببابك وقوف العبد المملوك، وعرِّفني مقامك وأنك أصل الغنى والجود. يا ملك الملوك.. اللهم وقد جعلتني مستخلفًا في ملكك، فاجعلني زاهدًا في ما ضمنتَ لي، راغبًا في ما طلبتَ مني. يا ملك الملوك.. اجعل المال في يدي لا في قلبي، وأرني فيه شدة اختبارك، ولا تجعلني به من المفتونين بكثرة عطائك. يا ملك الملوك.. اللهم اجعلني أجود ما أكون بدنياي، وأبخل ما أكون بِديني عن كل ما يناله بسوء. يا ملك الملوك.. لا تُحوِجني لأحد من خلقك، واجعل استعانتي بك وحدك. يا ملك الملوك.. اجعل الدنيا في عيني كما هي عندك، لا تساوي جناح بعوضة، واستعملني فيها في ما كل يرضيك عني. رابعًا: حاسب نفسك تعرِف ربَّك هل ترى في المال اختبار وفتنة شديدة قلَّ من ينجح فيها؟ هل أخرجت زكاة مواهبك وما منحك الله من عطايا مادية ومعنوية؟ هل تدبرت وتفكرت في نعم الله عليك، وهو نظرت إليها نظرة الاختبار؟ هل طمعت في ما يملك الناس أو حسدتهم على ما يملكون؟ هل تصبَّرتَ إذا نَزَع الملِك مِنْكَ المُلك؟ وهل تستسلم لحُكْمِه وحِكمته؟ |