من نعيم الجنة

إخوانــــــــي.. هل يشتري أحدكم سلعة لا علم له بها وبمواصفاتها؟! أو يدفع أحد مالا أو جهدا في مجهول؟! إن من تمام العقل معرفة ما تشتري ليسهل عليك دفع ما قد تراه غاليا لأول وهلة، وهو ليس بِغالٍ إذا علمت قدر السلعة المشتراة كما قيل:

فلما تلاقينا وعاينتُ حسنها              تيقنتُ أني إنمـــــا كنت ألعب

وهدف هذا الباب ووظيفته الكبرى التي أتمنى أن تتحقق لكل ذي عينين تقرءان هو: التشويق!! وآخر التشويق أخبرنا عنه  ابن الجوزي فقال:

« الاحتراق على قدر الاشتياق» 1.

وصدق رحمه الله، احتراق في المعاش على قدر الاشتياق إلى المال، واحتراق في العلم على قدر الاشتياق إلى المعرفة، واحتراق أهل الباطل في سبيله على قدر اشتياقهم إلى ظهور الباطل وعلوه، والأولى من كل ذلك: الاحتراق بذلا وعملا لشراء الجنة على قدر الاشتياق إليها، أليس كذلك؟!

 

لكن.. قبل أن نستشرف نعيم الجنة؛ لابد أن نقرِّر هذه الحقيقة: حين يصور الله لنا نعيما إنما يصوِّره التصوير الذي تستطيع اللغة أن توصله للمخاطَبين، وليس معنى هذا أن هذه هي الصورة الكاملة الدقيقة.. لماذا؟!

 

لأن ألفاظ اللغة تأتي على قدر إدراك المدرك وبحسب الصور التي يشاهدها أمامه، وخيال المرء وحدود عقلة مرتبطة بسمعه وبصره، فلا يمكن للعقل أن يتخيَّل إلا ما شاهد مثله أو سمعه من قبل لكن مكبَّرا أو مركَّبا في صورة مغايرة، ولما كان الغيب مما يسمو على السمع والبصر: «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت»؛ كان تصور الجنة المترتب عليهما مستحيلا: «ولا خطر على قلب بشر».

 

قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير:

« فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تُدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركِّبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات، مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ، ومثل الأشجار من زبرجد والأزهار من ياقوت وتراب من مسك وعنبر، فكل ذلك قليل في جانب ما أُعِدَّ لهم في الجنة من هذه الموصوفات، ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر».

فالله حين يعرض لنا عذابا في الآخرة أو نعيما لا يعرض حقيقة هذا العذاب أو النعيم، إنما يعرض لنا ما تطيقه أفهامنا بحسب الإمكانات التي تسمح بها لغتنا، واللغة: ألفاظ تبرز معاني، والمعنى لابد أن يوجد أولا ثم يوجد اللفظ الذي يعبِّر عنه، ولا يمكن أبدا أن يأتي لفظ أولا ثم نخترع له معنى يناسبه، فإذا كانت المعاني لا وجود لها في الأذهان كما أخبر بذلك النبي (ص): «ولا خطر على قلب بشر»، فكيف يمكن أن نوجِد لهذه المعاني ألفاظ تعبِّر عنها؟!

لكن لما كان القرآن نازلا لكي يكون كتابا مفهوما وقريبا من متناول العقول والأفهام، كان السبيل الأمثل إلى وصف ما غاب عنا من نعيم الجنة هو ضرب الأمثال وصيغ التشبيه لتقريب الصورة التي لا يستطيع الخيال لها تصويرا، ولا يستطيع اللسان عنها تعبيرا.

وتأمل قوله تعالى:(مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَ‌ۖ فِيہَآ أَنۡہَـٰرٌ۬ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٍ۬ وَأَنۡہَـٰرٌ۬ مِّن لَّبَنٍ۬ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُ ۥ وَأَنۡہَـٰرٌ۬ مِّنۡ خَمۡرٍ۬ لَّذَّةٍ۬ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنۡہَـٰرٌ۬ مِّنۡ عَسَلٍ۬ مُّصَفًّ۬ى‌)[ محمد: 15 ].

وكذلك قوله في الرعد:

(مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَ‌ۖ تَجۡرِى مِن تَحۡتِہَا ٱلۡأَنۡہَـٰرُ‌ۖ أُڪُلُهَا دَآٮِٕمٌ۬ وَظِلُّهَا‌ۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ‌ۖ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَـٰفِرِينَ ٱلنَّار)ُ  [ الرعد: 35 ].

والشاهد هنا: (مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ)

فما تقوم به الآية هنا هو التشبيه وضرب المثل، ومن رحمته سبحانه بنا أن عرَّفنا الجنة التي وعدنا بها عن طريق تشبيهها بما شاهدته عيوننا من أمور الدنيا وعايناه.

لكن..

ومرة ثانية..

هل هذه الصورة هي الحقيقة؟!

اسمعوا الظروف والبيئة التي نزل فيها القرآن لتفهموا:

نزل القرآن أول ما نزل في أمة بدوية كانوا يعيشون ظروفا معيشية قاسية يكابدون حر الشمس وشح الماء وقلة الزاد، ولذا كان تقريب صورة الجنة لهم عن طريق وصف ما يراه العربي أرقى أنواع التمتع، فالماء الذي هو سر الحياة كان البدوي يرحل بحثا عنه حتى إذا ما وجد بئرا في الصحراء نصب عندها خيمته واستقر في وطنه الجديد وقلبه مستطار فرحا، فكيف إذا لم تكن بئرا وكانت عينا جارية؟!

واللبن في الضرع هو أرقى أنواع اللذة عند العرب، لكن آفته أنه يفسد مع حر الصحراء وظروفها، فذِكر اللبن مبرَّءا من العيب كما يفهمه المتلقي هو قمة المتعة عنده، لكن هل طعمه مثل لبن الدنيا؟! كلا وحاشا.

والخمر وصفها بأنها لذة، لأن خمر الدنيا فيها لسعة في الطعم، فذكر أنهم سيلتذون بها في الجنة دون أن يجدوا فيها الأثر الدنيوي الذي يعيبها، ولذا لما سمع عالم قول شاعر: ما لها تحرم في الدنيا وفي الجنة منها؟ قال: لصداع الرأس ونزف العقل. مشيرا إلى قوله تعالى:(لَّا يُصَدَّعُونَ عَنۡہَا وَلَا يُنزِفُون) [الواقعة: 19]، فالله وصف اللذة الكاملة للخمر التي لا يشوبها ما ينغِّصها من الصداع وذهاب العقل.

والعسل كثيرا ما تشوبه الشوائب وتنغِّص مذاقه، ولا تنغيص في الجنة، لذا وصف الله عسل الجنة بأنه مُصفَّى.

وهكذا في سائر متع الجنة، كل ما يُذكر منها يناسب عقل المخاطب عن طريق الشبيه له في الدنيا، أما على أرض الواقع فهو ما لا تطيقه العقول ولا تقدره الأفهام.

ودور هذا الباب أن يحدِّثكم عن الجنة، وقد اخترت لكم أحلى نعيمها أعرضه عليكم، وانتقيت من مشاهدها ما يوقعكم في غرامها، وسأظل أُكرِّر ذلك عليكم حتى تهيموا بها شوقا وتتغنوا بها عشقا، شعاري وشعاركم:

أجبتكمْ من قبل رؤياكمُ    لطيب ذكــرٍ عنكـمُ قد جرى

كذلك الجنـة محبوبـــة    بوصفها مِن قبل أن تُبصرا


([1])  المدهش ص 451

 

 

اضف تعليقك

 
#2 عاشقة الجنة الخميس, 05 مايو 2011
الجنة عروس مهرها النفوس
اقتباس
 
 
#1 عاشقة الجن الخميس, 05 مايو 2011
بارك الله فيك وجزاك خيرا وجعلك من اهل الججنةةةةةةةةةة ةة
اقتباس
 
لافتة إعلانية
لافتة إعلانية
لافتة إعلانية

احصائيات الموقع

حاليا يتواجد 150 زوار  على الموقع